الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***
{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)} هذا معطوف على قوله: {إذا تداينتم بدَين وَإِن كُنتُمْ على سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فرهان مَّقْبُوضَةٌ} [البقرة: 282] الآية، فجميع ما تقدّم حكم في الحضر والمُكنة، فإن كانوا على سفر ولم يتمكّنوا من الكتابة لعدم وجود من يكتب ويشهد فقد شُرع لهم حكم آخر وهو الرهن، وهذا آخر الأقسام المتوقّعة في صور المعاملة، وهي حالة السفر غالباً، ويلحق بها ما يماثل السفر في هاته الحالة. والرهان جمع رهن ويجمع أيضاً على رُهُن بضم الراء وضم الهاء وقد قرأه جمهور العشرة: بكسر الراء وفتح الهاء، وقرأه ابن كثير، وأبو عَمْرو: بضم الراء وضم الهاء، وجمْعُه باعتبار تعدّد المخاطبين بهذا الحكم. والرهن هنا اسم للشيء المرهون تسميةً للمفعول بالمصدر كالخلْق. ومعنى الرهن أن يجعل شيء من متاع المدين بيد الدائن توثقة له في دينه. وأصل الرهن في كلام العرب يدل على الحَبس قال تعالى: {كل نفس ما كسبت رهينة} [المدثر: 38] فالمرهون محبوس بيد الدائن إلى أن يستوفي دينه قال زهير: وفارقْتَك برهن لا فَكَاكَ لَه *** يومَ الوَدَاععِ فأمسَى الرهن قد غَلِقَا والرهن شائع عند العرب: فقد كانوا يرهنون في الحمالات والدَيات إلى أن يقع دفعها، فربّما رهنوا أبناءهم، وربّما رهنوا واحداً من صناديدهم، قال الأعشى يَذْكر أنّ كِسْرى رام أخذ رهائن من أبنائهم: آلَيْتُ لا أُعْطِيه من أبنائنا *** رُهُنا فنفسدَهم كمَن قد أفْسَدا وقال عبد الله بن هَمَّام السلولي: فلمّا خَشِيتُ أظَافِيرَهم *** نَجَوْت وأرْهَنْتُهُم مَالِكَا ومن حديث كعب بن الأشْرَففِ أنّه قال لعبد الرحمان بن عَوْف: ارْهَنُوني أبْنَاءَكم. ومعنى فرِهانٌ: أي فرهان تعَوّض بها الكتابة. ووصفُها بمقبوضة إمّا لمجرّد الكشف، لأنّ الرهان لا تكون إلاّ مقبوضة، وإمّا للاحتراز عن الرهن للتوثقة في الديون في الحضر فيؤخَذ مِن الإذن في الرهن أنّه مباح فلذلك إذا سأله ربّ الدين أجيبَ إليه فدلّت الآية على أنّ الرهن توثقة في الدين. والآية دالة على مشروعية الرهن في السفر بصريحها. وأمّا مشروعية الرهن في الحضر فلأنّ تعليقه هنا على حال السفر ليس تعليقاً بمعنى التقييد بل هو تعليق بمعنى الفرض والتقدير، إذا لم يوجد الشاهد في السفر، فلا مفهوم للشرط لوروده مورد بيان حالة خاصة لا للاحتراز، ولا تعتبر مفاهيم القيود إلاّ إذا سيقت مساق الاحتراز، ولذا لم يعتدّوا بها إذا خرجت مخرج الغالب. ولا مفهوم له في الانتقال عن الشهادة أيضاً؛ إذ قد علم من الآية أنّ الرهن معاملة لهم، فلذلك أحيلوا عليها عند الضرورة على معنى الإرشاد والتنبيه. وقد أخذ مجاهد، والضحّاك، وداود الظاهري، بظاهر الآية من تقييد الرهن بحال السفر، مع أنّ السنّة أثبتت وقوع الرهن من الرسول صلى الله عليه وسلم ومن أصحابه في الحضَر. والآية دليل على أنّ القبض من متمّمات الرّهن شرعاً، ولم يختلف العلماء في ذلك، وإنّما اختلفوا في الأحكام الناشئة عن ترك القبض، فقال الشافعي: القبض شرط في صحة الرهن، لظاهر الآية، فلو لم يقارن عقدة الرهن قبض فسدت العقدة عنده، وقال محمد بن الحسن، صاحب أبي حنيفة: لا يجوز الرهن بدون قبض، وتردّد المتأخّرون من الحنفية في مفاد هذه العبارة؛ فقال جماعة: هو عنده شرط في الصحة كقول الشافعي، وقال جماعة: هو شرط في اللزوم قريباً من قول مالك، واتفق الجميع على أنّ للراهن أن يرجع بعد عقد الرهن إذا لم يقع الحوز، وذهب مالك إلى أنّ القبض شرط في اللزوم، لأنّ الرهن عقد يثبت بالصيغة كالبيع، والقبضُ من لوازمه، فلذلك يُجبر الراهن على تحويز المرتهن إلاّ أنّه إذا مات الراهن أو أفلس قبل التحويز كان المرتهن أسوةَ الغرماء؛ إذ ليس له ما يؤثره على بقية الغرماء، والآية تشهد لهذا لأنّ الله جعل القبض وصفاً للرهن، فعلم أنّ ماهية الرهن قد تحقّقت بدون القبض. وأهل تونس يكتفون في رهن الرباع والعقار برهن رسوم التملّك، ويعدّون ذلك في رهن الدين حوزاً. وفي الآية دليل واضح على بطلان الانتفاع؛ لأنّ الله تعالى جعل الرهن عوضاً عن الشهادة في التوثّق فلا وجه للانتفاع، واشتراط الانتفاع بالرهن يخرجه عن كونه توثّقاً إلى ماهية البيع. {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الذى اؤتمن أمانته وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ}. متفرّع على جميع ما تقدّم من أحكام الدين: أي إنْ أمِنَ كلّ من المتداينين الآخر أي وثق بعضكم بأمانة بعض فلم يطالبه بإشهاد ولا رهن، فالبعض المرفوع هو الدائن، والبعض المنصوب هو المدين وهو الذي ائتُمن. والأمانة مصدر آمنه إذا جعله آمناً. والأمن اطمئنان النفس وسلامتها ممّا تخافه، وأطلقت الأمانة على الشيء المؤمَّن عليه، من إطلاق المصدر على المفعول. وإضافة أمانته تشبه إضافة المصدر إلى مفعوله. وسيجيء ذكر الأمانة بمعنى صفةِ الأمين عندَ قوله تعالى: {وأنا لكم ناصح أمين} في سورة الأعراف (68). وقد أطلق هنا اسم الأمانة على الدَّين في الذمّة وعلى الرهن لتعظيم ذلك الحق لأنّ اسم الأمانات له مهابَة في النفوس، فذلك تحذير من عدم الوفاء به؛ لأنّه لما سمّي أمانة فعدم أدائه ينعكس خِيانة؛ لأنّها ضدّها، وفي الحديث: أدِّ الأمَانَة إلى من ائتَمنك ولا تَخن من خانك. والأداء: الدفع والتوفية، وردّ الشيء أو رَدُّ مثله فيما لا تقصد أعيانه، ومنه أداء الأمانة وأداء الدّين أي عدم جحده قال تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} [النساء: 58]. والمعنى: إذا ظننتم أنّكم في غُنية عن التوثّق في ديونكم بأنّكم أمناء عند بعضكم، فأعْطُوا الأمانَة حَقَّها. وقد علمتَ ممّا تقدم عند قوله تعالى: {فاكتبوه} أنّ آية {فإن أمن بعضكم بعضاً فليود الذي أؤتمن أمانته} تعتبر تكميلاً لطلب الكتابة والإشهادِ طلَبَ ندب واستحباب عند الذين حملوا الأمر في قوله تعالى: {فاكتبوه} على معنى الندب والاستحباب، وهم الجمهور. ومعنى كونها تكميلاً لذلك الطلب أنّها بيّنت أنّ الكتابة والإشهاد بين المتداينين، مقصود بهما حسن التعامل بينهما، فإن بدَا لهما أن يأخذا بهما فنعمَّا، وإن اكتفيا بما يعلمانه من أماننٍ بينهما فلهما تركهما. وأتبع هذا البيان بوصاية كلا المتعاملين بأن يؤدّيا الأمانة ويتّقيا الله. وتقدم أيضاً أنّ الذين قالوا بأنّ الكتابة والإشهاد على الديون كان واجباً ثم نسخ وجوبه، ادّعوا أنّ ناسخه هو قوله تعالى: {فإن أمن بعضكم بعضاً} الآية، وهو قول الشعبي، وابن جريج، وجابر بن زيد، والربيع بن سليمان، ونسب إلى أبي سعيد الخدري. ومحمل قولهم وقوللِ أبي سعيد إن صحّ ذلك عنه أنّهم عنّوا بالنسخ تخصيص عموم الأحوال والأزمنة. وتسميةُ مثل ذلك نسخاً تسمية قديمة. أمّا الذين يرون وجوب الكتابة والإشهاد بالديون حكمَا مُحْكَما، ومنهم الطبري، فقصروا آية {فإن أمن بعضكم بعضاً} الآية على كونها تكملةً لصورة الرهن في السفر خاصة، كما صرّح به الطبري ولم يأت بكلام واضح في ذلك ولكنّه جمجم الكلام وطَوَاه. ولَوْ أنّهم قالوا: إنّ هذه الآية تعني حالةَ تعذّر وجود الرهن في حالة السفر، أي فلم يبق إلاّ أن يأمن بعضكم فالتقدير: فإن لم تجدوا رهناً وأمن بعضكم بعضاً إلى آخره لكان له وجه، ويُفهم منه أنّه إن لم يأمنه لا يداينه، ولكن طُوى هذا ترغيباً للناس في المواساة والاتِّسام بالأمانة. وهؤلاء الفرق الثلاثة كلّهم يجعلون هذه الآية مقصورة على بيان حالة ترك التوثّق في الديون. وأظهر ممّا قالوه عندي: أنّ هذه الآية تشريع مستقلّ يعم جميع الأحوال المتعلّقة بالديون: من إشهاد، ورهننٍ، ووفاءٍ بالدّين، والمتعلّقةِ بالتبايع، ولهذه النكتة أبهم المؤتمنون بكلمة {بعض} ليشمَل الائتمان من كلا الجانبين: الذي من قبل ربّ الدين، والذي من قبل المدين. فربّ الدين يأتمن المدين إذا لم ير حاجة إلى الإشهاد عليه، ولم يطالبه بإعطاء الرهن في السفر ولا في الحضر. والمدين يأتمن الدائنَ إذا سَلَّم له رهناً أغلى ثمناً بكثير من قيمة الدين المرتهَن فيه، والغالب أنّ الرهان تكون أوْفَرَ قيمة من الديون التي أرهنت لأجلها، فأمر كلّ جانب مؤتمننٍ أن يؤدّي أمانته، فأداءُ المدين أمانته بدفع الدين، دون مطل، ولا جحود، وأداء الدائن أمانته إذا أعطي رهناً متجاوزَ القيمةِ على الدّين أن يردّ الرهن ولا يجحده غير مكترث بالدّين؛ لأنّ الرهن أوفر منه، ولا ينقص شيئاً من الرهن. ولفظ الأمانة مستعمل في معنيين: معنى الصفة التي يتَّصف بها الأمين، ومعنى الشيء المؤمَّن. فيؤخذ من هذا التفسير إبطال غلَق الرهن: وهو أن يصير الشيء المرهون ملكاً لربّ الدّين، إذا لم يدفع الدينَ عند الأجل، قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا يَغْلق الرهنُ " وقد كان غَلق الرهن من أعمال أهل الجاهلية، قال زهير: وفارقَتْكَ برَهْننٍ لا فَكَاكَ له *** عند الوَداع فأمسى الرهن قد غَلِقا ومعنى {أمن بعضكم بعضاً} أن يقول كلا المتعاملين للآخر: لا حاجة لنا بالإشهاد ونحن يأمن بعضنا بعضاً، وذلك كي لا ينتقض المقصد الذي أشرنا إليه فيما مضى من دفع مظنّة اتّهام أحد المتداينين الآخر. وزيد في التحذير بقوله: {وليتق الله ربه}، وذِكر اسم الجلالة فيه مع إمكان الاستغناء بقوله: «وليتّق ربّه» لإدخال الرّوع في ضمير السامع وتربية المهابة. وقوله: {الذي أؤتمن} وقع فيه ياء هي المدة في آخر (الذي) ووقع بعده همزتان أولاهما وصلية وهي همزة الافتعال، والثانية قطعية أصلية، فقرأه الجمهور بكسر ذال الذي وبهمزة ساكنة بعد كسرة الذال؛ لأنّ همزة الوصل سقطت في الدرَج فبقيت الهمزة على سكونها؛ إذ الداعي لقلب الهمزة الثانية مدّا قد زال، وهو الهمزة الأولى، ففي هذه القراءة تصحيح للهمزة؛ إذ لا داعي للإعلال. وقرأه ورش عن نافع، وأبو عمرو، وأبو جعفر: الّذِيتُمن بياء بعد ذال الذي، ثم فوقية مضمومة: اعتباراً بأنّ الهمزة الأصلية قد انقلبت واواً بعد همزة الافتعال الوصلية؛ لأنّ الشأن ضم همزة الوصل مجانسة لحركة تاء الافتعال عند البناء للمجهول، فلمّا حذفت همزة الوصل في الدرج بقيت الهمزة الثانية واواً بعد كسرة ذال (الذي) فقلبت الواو ياء ففي هذه القراءة قلبان. وقرأه أبو بكر عن عاصم: الذي اوتمن بقلب الهمزة واواً تبعاً للضمة مشيراً بها إلى الهمزة. وهذا الاختلاف راجع إلى وجه الأداء فلا مخالفة فيه لرسم المصحف. {وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءَاثِمٌ قَلْبُهُ والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}. وصاية ثانية للشهداء تجمع الشهادات في جميع الأحوال؛ فإنّه أمر أن يكتب الشاهد بالعدل، ثم نُهي عن الامتناع من الكتابة بين المتداينين، وأعقَب ذلك بالنهي عن كتمان الشهادة كلّها. فكان هذا النهي بعمومه بمنزلة التذييل لأحكام الشهادة في الدّين. واعلم أنّ قوله تعالى: {ولا تكتموا الشهادة} نهي، وأنّ مقتضى النهي إفادة التكرار عند جمهور علماء الأصول: أي تكرارِ الانكفاف عن فعل المنهيّ في أوقات عُروضضِ فعله، ولولا إفادته التكرار لَما تحقّقت معصية، وأنّ التكرار الذي يقتضيه النهي تكرار يستغرق الأزمنة التي يعرض فيها داععٍ لِفعل المنهيّ عنه، فلذلك كان حقّاً على من تحمّل شهادة بحقّ ألاّ يكتمه عند عروض إعلانه: بأن يبلغه إلى من ينتفع به، أو يقضِي به، كلّما ظهر الداعي إلى الاستظهار به، أو قبلَ ذلك إذا خشي الشاهد تلاشي ما في علمه: بغيبة أو طُرُوِّ نسيان، أو عروض موت، بحسب ما يتوقّع الشاهد أنّه حافظٌ للحقّ الذي في علمه، على مقدار طاقته واجتهاده. وإذ قد علمتَ آنفاً أنّ الله أنبأنا بأنّ مراده إقامة الشهادة على وجهها بقوله: {وأقوم للشهادة} [البقرة: 282]، وأنّه حرّض الشاهد على الحضور للإشهاد إذا طُلب بقوله: {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا} [البقرة: 282] فعُلم من ذلك كلّه الاهتمام بإظهار الشهادة إظهاراً للحق. ويؤيّد هذا المعنى ويزيده بياناً: قول النبي صلى الله عليه وسلم " ألاَ أخْبِرُكُم بخَيْر الشهداءِ الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسألَها " رواه مالك في «الموطّأ»، ورواه عنه مسلم والأربعة. فهذا وجه تفسير الآية تظاهرَ فيه الأثر والنظرُ. ولكن روى في «الصحيح» عن أبي هريرة: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " خيرُ أمَّتِي القرنُ الذي بُعِثْتُ فيهم ثم الذين يلونهم قالها ثانية وشكّ أبو هريرة في الثالثة ثم يخلف قوم يشهدون قبل أن يستشهدوا " الحديثَ. وهو مسوق مساق ذَمِّ مَن وصفهم بأنّهم يشهدون قبل أن يُستشهدوا، وأنّ ذمّهم من أجل تلك الصفة. وقد اختلف العلماء في محمله؛ قال عياض: حمله قوم على ظاهره من ذمّ من يَشهد قبل أن تطلب منه الشهادة، والجمهور على خلافه وأنّ ذلك غير قادح، وحملوا ما في الحديث على ما إذا شهِد كاذباً، وإلاّ فقد جاء في «الصحيح»: " خير الشهود الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسْألَها ". وأقول: روى مسلم عن عِمران بن حُصَين: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنّ خيركم قرني ثم الذين يلونهم قالها مرتين أو ثلاثاً ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون " الحديث. والظاهرّ أنّ ما رواه أبو هريرة وما رواه عِمران بن حصين حديث واحد، سمعه كِلاَهما، واختلفت عبارتهما في حكايته فيكون لفظ عمران بن حصين مبيّناً لفظ أبي هريرة أنّ معنى قوله: قبل أن يستشهدوا دُونَ أن يستشهدوا، أي دون أن يستشهدهم مُشهد، أي أن يحمِلوا شهادة أي يشهدون بما لا يعلمون، وهو الذي عناه المازري بقوله: وحملوا ما في الحديث أي حديث أبي هريرة على ما إذا شهد كاذباً. فهذا طريق للجمع بين الروايتين، وهي ترجع إلى حمل المجمل على المبيّن. وقال النووي: تأوّلَه بعض العلماء بأنّ ذم الشهادة قبل أن يُسألها الشاهد هو في الشهادة بحقوق الناس بخلاف ما فيه حق اللَّه قال النووي: «وهذا الجمع هو مذهب أصحابنا» وهذه طريقة ترجع إلى إعمال كل من الحديثين في باب، بتأويل كلّ من الحديثين على غير ظاهره؛ لئلا يلغَى أحدهما. قلت: وبنى عليه الشافعية فرعا بردّ الشهادة التي يؤدّيها الشاهد قبل أن يُسألها، ذكره الغزالي في «الوجيز»، والذي نقل ابن مرزوق في «شرح مُختصر خليل عن الوجيز» «الحرص على الشهادة بالمبادرة قبلَ الدعوى لا تقبل، وبعد الدعوى وقبل الاستشهاد وجهان فإن لم تقبل فهل يصير مجروحاً وجهان». فأما المالكية فقد اختلفَ كلامهم. فالذي ذهب إليه عياض وابن مرزوق أنّ أداء الشاهد شهادته قبل أن يسألها مقبول لحديث «الموطأ» «خَيْر الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسألها» ونقل الباجي عن مالك: «أنّ معنى الحديث أن يكون عند الشاهد شهادة لرجل لا يعلم بها، فيخبره بها، ويؤدّيها له عند الحاكم» فإنّ مالكاً ذكره في «الموطأ» ولم يذيّله بما يقتضي أنّه لا عمل عليه وتبعَ الباجي ابنُ مرزوق في «شرحه لمختصر خليل»، وادّعى أنَّه لا يعرف في المذهب ما يخالفه والذي ذهب إليه ابن الحاجب، وخليلٌ، وشارحو مختصرَيْهما: أنّ أداء الشهادة قبل أن يطلب من الشاهد أداؤُها مانع من قبولها: قال ابن الحاجب «وفي الأداء يُبدأ به دونَ طلب فيما تمحّض من حق الآدمي قادِحة» وقال خليل عاطفاً على موانع قبول الشهادة: «أوْ رَفَع قبل الطلب في مَحْض حقّ الآدمي». وكذلك ابن راشد القفصي في كتابه «الفائِق في الأحكام والوثائق» ونسبه النووي في «شرحه على صحيح مسلم لمالك»، وحمله على أنّ المستند متّحد وهو إعمال حديث أبي هريرة ولعلّه أخذ نسْبة ذلك لمالك من كلام ابن الحاجب المتقدّم. وادّعى ابن مرزوق أنّ ابن الحاجب تبع ابن شاس إذ قال: «فإن بادر بها من غير طلب لم يقبل» وأنّ ابن شاس أخذه من كلام الغزالي قال: «والذي تقتضيه نصوص المذهب أنّه إنْ رفعها قبل الطلب لم يقدح ذلك فيها بل إن لم يكن فعله مندوباً فلا أقلّ من أن لا تُردّ» واعتضد بكلام الباجي في شرح حديث: خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسألها. وقد سلكوا في تعليل المسألة مسلكين: مسلك يرجع إلى الجمع بين الحديثين، وهو مسلك الشافعية، ومسلك إعمال قاعدة رَدّ الشهادةِ بتهمة الحرص على العمل بشهادته وأنّه ريبة. وقوله: {ومن يكتمها فإنه آثم قلبه} زيادة في التحذير. والإثمُ: الذنب والفجور. والقلب اسم للإدراك والانفعالات النفسية والنَوايا. وأسد الإثم إلى القلب وإنّما الآثم الكاتم لأنّ القلب أي حركات العقل يسبّب ارتكاب الإثم: فإنّ كتمان الشهادة إصْرار قلبي على معصية، ومثله قوله تعالى: {[الأعراف: 116] وإنّما سحَروا الناس بواسطة مرئيات وتخيّلات وقول الأعشى: كذلكَ فافعل ما حييتَ إذا شَتَوْا *** وأقْدِمْ إذَا ما أعْيُنُ الناسسِ تَفْرق لأنْ الفرَق ينشأ عن رؤية الأهوال. وقوله: والله بما تعملون عليم} تهديد، كناية عن المجازاة بمثل الصنيع؛ لأنّ القادر لا يحُول بينه وبين المؤاخذة إلاّ الجهل فإذا كان عليماً أقام قسطاس الجزاء.
{لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)} تعليل واستدلال على مضمون جملةوالله بما تعملون عليم لِّلَّهِ} وعلى ما تقدم آنفاً من نحو: {الله بكل شيء عليم} [آل عمران: 176] {واللَّه بما تعملون عليم واللَّه بما تعملون بصير} [الممتحنة: 30] {واللَّه بما تعملون خبير} [البقرة: 234] فإذا كان ذلك تعريضاً بالوعد والوعيد، فقد جاء هذا الكلام تصريحاً واستدلالاً عليه، فجملة {وإن تبدوا ما في أنفسكم} إلى آخرها هي محطُّ التصريح، وهي المقصود بالكلام، وهي معطوفة على جملة {ولا تكتموا الشهادة إلى والله بما تعملون عليم} [البقرة: 283] وجملةُ {لله ما في السموات وما في الأرض} هي موقع الاستدلال، وهي اعتراض بين الجملتين المتعاطفتين، أو علة لجملة {والله بما تعملون عليم} باعتبار إرادة الوعيد والوعد، فالمعنى: إنّكم عبيد ه فلا يفوته عملَكُم والجزاء عليه. وعلى هذا الوجه تكون جملة «وإن تبدوا ما في أنفسكم» معطوفة على جملة {لله ما في السموات وما في الأرض} عطف جملة على جملة، والمعنى: إنكم عبيدُه، وهو محاسبكم، ونظيرُها في المعنى قوله تعالى: {وأسِرُّوا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور ألا يعلم من خلق} [الملك: 13، 14] ولا يخالف بينهما إلاّ أسلوب نظم الكلام. ومعنى الاستدلال هنا: إنّ الناس قد علموا أنّ الله ربّ السموات والأرض، وخالق الخلق، فإذا كان في السموات والأرض لِلَّه، مخلوقاً له، لزم أن يكون جميع ذلك معلوماً له لأنَّه مكوِّن ضمائرِهم وخواطرهم، وعموم علمه تعالى بأحوال مخلوقاته من تمام معنى الخالقية والربوبية؛ لأنّه لو خفي عليه شيء لكان العبد في حالة اختفاء حاله عن علم الله مستقلاً عن خالقه. ومالكيةُ الله تعالى أتَمّ أنواع الملك على الحَقيقة كسائر الصفات الثابتة لله تعالى، فهي الصفات على الحقيقة من الوجود الواجب إلى ما اقتضاه وجوبُ الوجود من صفات الكمال. فقوله: {لله ما في السموات وما في الأرض} تمهيد لقوله: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} الآية. وعُطف قوله: {وإن تبدوا ما في أنفسكم} بالواو دون الفاء للدلالة على أنّ الحكم الذي تضمَّنه مقصود بالذات، وأنّ ما قبله كالتمهيد له. ويجوز أن يكون قوله: {وإن تبدوا} عطفاً على قوله: {والله بما تعملون عليم} [البقرة: 283] ويكون قوله: {لله ما في السموات وما في الأرض} اعتراضاً بينهما. وإبداء ما في النفس: إظهاره، وهو إعلانه بالقول، فيما سبيله القول، وبالعمل فيما يترتّب عليه عمل؛ وإخفاؤه بخلاف ذلك، وعطف {أو تخفوه} للترقّي في الحساب عليه، فقد جاء على مقتضى الظاهر في عطف الأقوى على الأضعف، وفي الغرض المسوق له الكلام في سياق الإثبات. وما في النفي يعمّ الخير والشر. والمحاسبة مشتقّة من الحُسبان وهو العدّ، فمعنى يحاسبكم في أصل اللغة: يعُدُّه عليكم، إلاّ أنّه شاع إطلاقه على لازم المعنى وهو المؤاخذة والمجازاة كما حكى الله تعالى: {[الشعراء: 113] وشاع هذا في اصطلاح الشرع، ويوضّحه هنا قوله: {فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء}. وقد أجمل الله تعالى هنا الأحوال المغفورة وغير المغفورة: ليكون المؤمنون بين الخوف والرجاء، فلا يقصّروا في اتّباع الخيرات النفيسة والعملية، إلاّ أنّه أثبت غفراناً وتعذيباً بوجه الإجمال على كلَ ممَّا نُبديه وما نخفيه. وللعلماء في معنى هذه الآية، والجمع بينها وبين قوله صلى الله عليه وسلم " مَنْ هَمّ بسيئة فلم يعملها كتُبت له حسنة ". وقوله: " إن الله تجاوز لأمَّتِي عمّا حدثتْها به أنفُسها " وأحسن كلام فيه ما يأتلف من كلامي المازري وعياض، في شرحيهما «لصحيح مسلم»: وهو مع زيادة بيان أنّ ما يخطر في النفس إن كان مجرّد خاطرِ وتردّد من غير عزم فلا خلاف في عدم المؤاخذة به، إذ لا طاقة للمكلّف بصرفه عنه، وهو مورد حديث التجاوز للأمة عمّا حدّثت به أنفسها، وإن كان قد جاش في النفس عَزم، فإما أن يكون من الخواطر التي تترتّب عليها أفعال بدنية أوْ لا، فإن كان من الخواطر التي لا تترتَّب عليها أفعال: مثل الإيمان، والكفر، والحسد، فلا خلاف في المؤاخذة به؛ لأنَّ مما يدخل في طوق المكلّف أن يصرفه عن نفسه، وإن كان من الخواطر التي تترتّب عليها آثار في الخارج، فإن حصلت الآثار فقد خرج من أحوال الخواطر إلى الأفعال كمن يعزم على السرقة فيسرق، وإن عزم عليه ورجع عن فعله اختياراً لغير مانع منعه، فلا خلاف في عدم المؤاخذة به وهو مورد حديث " من همّ بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنةً " وإن رجع لمانععٍ قهره على الرجوع ففي المؤاخذة به قولان. أي إنّ قوله تعالى: {يحاسبكم به الله} محمول على معنى يجازيكم وأنّه مُجمل تُبَيّنه موارد الثواب والعقاب في أدلة شرعية كثيرة، وإنّ من سمَّى ذلك نسخاً من السلف فإنّما جرى على تسميةٍ سبقتْ ضَبطَ المصطلحات الأصولية فأطلق النّسخ على معنى البيان وذلك كثير في عبارات المتقدّمين وهذه الأحاديث، وما دلّت عليه دلائل قواعد الشريعة، هي البيان لمن يشاء في قوله تعالى: {فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء}. وفي «صحيح البخاري» عن ابن عباس «أنّ هذه الآية نُسِخت بالتي بعدها» أي بقوله: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} [البقرة: 286] كما سيأتي هنالك. وقد تبيّن بهذا أنّ المشيئة هنا مترتّبة على أحوال المُبْدَى والمُحْفَى، كما هو بيّن. وقرأ الجمهور: فيَغفرْ ويعذّب بالجزم، عطفاً على يحاسِبْكم، وقرأه ابن عامر، وعاصم، وأبو جعفر، ويعقوب: بالرفع على الاستئناف بتقدير فهو يغفر، وهم وجهان فصيحان، ويجوز النصب ولم يقرأ به إلا في الشاذ. وقوله: {والله على كل شيء قدير} تذييل لما دلّ على عموم العلم، بما يدلّ على عموم القدرة.
{آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)} قال الزجاج: «لما ذكر الله في هذه السورة أحكاماً كثيرةً، وقصصاً، ختمها بقوله: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه} تعظيماً لنبيّه صلى الله عليه وسلم وأتباعه، وتأكيداً وفذلكة لجميع ذلك المذكور من قبل». يعني: أنّ هذا انتقال من المواعظ، والإرشاد، والتشريع، وما تخلّل ذلك: ممّا هو عون على تلك المقاصد، إلى الثناء على رسوله والمؤمنين في إيمانهم بجميع ذلك إيماناً خالصاً يتفرّع عليه العمل؛ لأنّ الإيمان بالرسول والكتاب، يقتضي الامتثالَ لما جاء به من عمل. فالجملة استئناف ابتدائي وضعت في هذا الموقع لمناسبة ما تقدم، وهو انتقال مؤذن بانتهاء السورة لأنّه لما انتقل من أغراض متناسبة إلى غرض آخر: هو كالحاصل والفذلكة، فقد أشعر بأنّه استوفى تلك الأغراض. وورد في أسباب النزول أنّ قوله: {آمن الرسول} يرتبط بقوله: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} [البقرة: 284] كما تقدم آنفاً. وأل في الرسول للعد. وهو عَلَم بالغلبة على محمد صلى الله عليه وسلم في وقت النزول قال تعالى: {وهمّوا بإخراج الرسول} [التوبة: 13]. و{المؤمنون} معطوف على {الرسول}، والوقف عليه. والمؤمنون هنا لَقَب للذين استجابوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلذلك كان في جعله فاعلاً لقوله: {آمن} فائدةٌ، مع أنّه لا فائدةَ في قولك: قامَ القائمون. وقوله: {كل آمن بالله} جمع بعد التفصيل، وكذلك شأن (كلَ) إذا جاءت بعد ذكر متعدّد في حُكْم، ثم إرادة جمعه في ذلك، كقول الفضل بن عباس اللَّهَبِي، بعد أبيات: كُلٌّ له نِيَّةٌ في بغض صاحبه *** بنعمة الله نقليكم وتَقْلُونا وإذ كانت (كلّ) من الأسماء الملازمة الإضافة فإذا حذف المضاف إليه نوّنت تنوينَ عوض عن مفرد كما نبّه عليه ابن مالك في «التسهيل». ولا يعكر عليه أنّ (كل) اسم معرب لأنّ التنوين قد يفيد الغرضين فهو من استعمال الشيء في معنييه. فمن جوّز أن يكون عَطْفُ {المؤمنون} عطفَ جملة وجعل {المؤمنون} مبتدأ وجعل {كلٌّ} مبتدأ ثانياً {وآمن} خبره، فقد شذّ عن الذوق العربي. وقرأ الجمهور {وكتبه} بصيغة جمع كتاب، وقرأه حمزة، والكسائي: وكِتَابِه، بصيغة المفرد على أنّ المراد القرآن أو جنس الكتاب. فيكون مساوياً لقوله: {وكتبه}، إذ المراد الجنس، والحقُّ أنّ المفرد والجمع سواء في إرادة الجنس، ألا تراهم يقولون: إنّ الجمع في مدخول أل الجنسية صوري، ولذلك يقال: إذا دَخلت ألْ الجنسية على جمع أبطلت منه معنى الجمعية، فكذلك كل ما أريد به الجنس كالمضاف في هاتين القراءتين، والإضافة تأتي لما تأتي له اللام، وعن ابن عباس أنّه قال، لما سئل عن هذه القراءة: «كتابِه أكثر من كُتبِه أو الكتاب أكثر من الكتب» فقيل أراد أنّ تناول المفرد المراد به الجنس أكثر من تناول الجمع حين يراد به الجنس، لاحتمال إرادة جنس الجموع، فلا يسري الحكم لما دون عدد الجمع من أفراد الجنس، ولهذا قال صاحب «المفتاح» «استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع». والحقُّ أنّ هذا لا يقصده العرب في نفي الجنس ولا في استغراقه في الإثبات. وأنّ كلام ابن عباس إن صح نقله عنه فتأويله أنّه أكْثَر لمساواته له معنى، مع كونه أخصر لفظاً، فلعلّه أراد بالأكثر معنى الأرجح والأقوى. وقوله: {لا نفرق بين أحد من رسله} قرأه الجمهور بنون المتكلم المشارَك، وهو يحتمل الالتفات: بأن يكون من مقول قول محذوففٍ دل عليه السياق وعطف {وقالوا} عليه. أو النون فيه للجلالة أي آمَنُوا في حَال أنّنا أمرناهم بذلك، لأنّنا لا نفرّق فالجملة معترضة. وقيل: هو مقول لقول محذوف دل عليه آمَن؛ لأنّ الإيمان اعتقاد وقول. وقرأه يعقوب بالياء: على أنّ الضمير عائد على {كلُّ آمن بالله}. والتفريق هنا أريد به التفريق في الإيمان به والتصديق: بأن يؤمن ببعض ويكفر ببعض. وقوله: {لا نفرق بين أحد من رسله} تقدم الكلام على نظيره عند قوله تعالى: {لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون} [البقرة: 136]. {وقالوا سمعنا وأطعنا} عطف على {آمن الرسول} والسمع هنا كناية عن الرضا، والقبول، والامتثال، وعكسه لا يَسمعون أي لا يطيعون وقال النابغة: تَناذَرَهَا الرّاقُون مِنْ سُوءِ سَمْعِها *** أي عدم امتثالها للرُّقْيَا. والمعنى: إنَّهم آمنوا، واطمأنّوا وامتثلوا، وإنّما جيء بلفظ الماضي، دون المضارع، ليدلوا على رسوخ ذلك؛ لأنّهم أرادوا إنشاء القبول والرضا، وصيغ العقود ونحوها تقع بلفظ الماضي نحو بعْت. وغفرانك نُصب على المفعول المطلق: أي اغفِرْ غفرانك، فهو بدل من فعله. والمصير يحتمل أن يكون حقيقة فيكون اعترافاً بالبعث، وجعل منتهياً إلى الله لأنّه منتهٍ إلى يوم، أو عالَم، تظهر فيه قدرة الله بالضرورة. ويحتمل أنّه مجاز عن تمام الامتثال والإيمان. كأنّهم كانوا قبل الإسلام آبقين، ثم صاروا إلى الله، وهذا كقوله تعالى: {ففروا إلى اللَّه} [الذاريات: 50]. وجعل المصير إلى الله تمثيلاً للمصير إلى أمره ونهيه: كقوله: {ووجد اللَّه عنده فوفاه حسابه} [النور: 39] وتقديم المجرور لإفادة الحصر: أي المصير إليك لا إلى غيرك، وهو قصر حقيقي قصدوا به لازم فائدته، وهو أنّهم عالِمون بأنّهم صائرون إليه، ولا يصيرون إلى غيره ممّن يعبدهم أهل الضّلال.
{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)} الأظهر أنّه من كلام الله تعالى، لا من حكاية كلام الرسول والمؤمنين، فيكون اعتراضاً ين الجمل المحكية بالقول، وفائدته إظهار ثمرة الإيمان، والتسليم، والطاعة، فأعلمهم الله بأنّه لم يجعل عليهم في هذا الدين التكليف بما فيه مشقة، وهو مع ذلك تبشير باستجابة دعوتهم الملقنة، أو التي ألهموها: وهي ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ} إلى قوله {ما لا طاقة لنا به} قبل أن يحكي دعواتهم تلك. ويجوز أن يكون من كلام الرسول والمؤمنين، كأنّه تعليل لقولهم سمعنا وأطعنا أي علمنا تأويل قول ربنا: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} [البقرة: 284] بأنّه يدخلها المؤاخذة بما في الوسع، ممَّا أبدى وما أخفى، وهو ما يظهر له أثر في الخارج اختياراً، أو يعقد عليه القلب، ويطمئنّ به، إلاّ أنّ قوله: {لها ما كسبت} إلخ يبعد هذا؛ إذ لا قبل لهم بإثبات ذلك. فعلى أنّه من كلام الله فهو نسخ لقوله: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} وهذا مروي في «صحيح مسلم» عن أبي هريرة وابن عباس أنّه قال: لما نزلت {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} [البقرة: 284] اشتدّ ذلك على أصحاب رسول الله فأتوه وقالوا: لا نطيقها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم قولوا: " سمعنا وأطعنا وسلمنا " فألقى الله الإيمان في قلوبهم، فلمّا فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها}، وإطلاق النسخ على هذا اصطلاح للمتقدّمين، والمراد البيانُ والتخصيص لأنّ الذي تطمئنّ له النفس: أنّ هذه الآيات متتابعة النظم، ومع ذلك يجوز أن تكون نزلت منجّمة، فحدَث بين فترة نزولها ما ظنّه بعض المسلمين حرجاً. والوسع في القراءة بضم الواو، في كلام العرب مثلّث الواو وهو الطاقة والاستطاعة، والمراد به هنا ما يطاق ويستطاع، فهو من إطلاق المصدر وإرادة المفعول. والمستطاع هو ما اعتادَ الناسُ قدرتَهم على أن يفعلوه إن توجّهت إرادتهم لفعله مع السلامة وانتفاء الموانع. وهذا دليل على عدم وقوع التكليف بما فوق الطاقة في أديان الله تعالى لعموم (نفساً) في سياق النفي، لأنّ الله تعالى ما شرع التكليف إلاّ للعمل واستقامة أحوال الخلق، فلا يكلّفهم ما لا يطيقون فعله، وما ورد من ذلك فهو في سياق العقوبات، هذا حكم عام في الشرائع كلّها. وامتازت شريعة الإسلام باليسر والرفق، بشهادة قوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج: 78] وقوله: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}، ولذلك كان من قواعد الفقه العامة «المشقّةُ تجلب التيسير». وكانت المشقة مظنّة الرخصة، وضبط المشاقّ المسقطة للعبادة مذكور في الأصول، وقد أشبعت القول فيه في كتابي المسمّى «مقاصد الشريعة» وما ورد من التكاليف الشاقّة فأمر نادر، في أوقات الضرورة، كتكليف الواحد من المسلمين بالثباتتِ للعشرة من المشركين، في أول الإسلام، وقلّة المسلمين. وهذه المسألة هي المعنونة في كتب الأصلين بمسألة التكليف بالمحَال، والتكليف بما لا يطاق، وهي مسألة أرنَّت بها كتب الأشاعرة والمعتزلة، واختلفوا فيها اختلافاً شهيراً، دعا إليه التزام الفريقين للوازم أصولهم وقواعدهم فقالت الأشاعرة: يجوز على الله تكليف ما لا يطاق بناء على قاعدتهم في نفي وجوب الصلاح على الله، وأنّ ما يصدر منه تعالى كلّه عدل لأنّه مالك العباد، وقاعدتهم في أنّه تعالى يخلق ما يشاء، وعلى قاعدتهم في أنّ ثمرة التكليف لا تختص بقصد الامتثال بل قد تكون لقصد التعجيز والابتلاء وجعل الامتثال علامة على السعادة، وانتفائه علامة على الشقاوة، وترتّب الإثم لأنّ لله تعالى إثابَة العاصي، وتعذيبَ المطيع، فبالأوْلى تعذيب من يأمره بفعل مستحيل، أو متعذّر، واستدلّوا على ذلك بحديث تكليف المصوّر بنفخ الروححِ في الصورة وما هو بنافخ، وتكليف الكاذب في الرؤيا بالعقد بين شعيرتين وما هو بفاعل. ولا دليل فيه لأنّ هذا في أمور الآخرة، ولأنّهما خبرَا آحاد لا تثبت بمثلها أصول الدين. وقالت المعتزلة: يمتنع التكليف بما لا يطاق بناء على قاعدتهم في أنّه يجب الله فعل الصلاح ونفي الظلم عنه، وقاعدتهم في أنّه تعالى لا يخلق المنكرات من الأفعال، وقاعدتهم في أنّ ثمرة التكليف هو الامتثال وإلاّ لصار عبثاً وهو مستحيل على الله، وأنّ الله يستحيل عليه تعذيب المطيع وإثابة العاصي. واستدلّوا بهذه الآية، وبالآيات الدالة على أصولِها: مثل {ولا يظلم ربك أحداً} [الكهف: 49] {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} [الإسراء: 15] {قل إنّ الله لا يأمر بالفحشاء} [الأعراف: 28] إلخ. والتحقيق أنّ الذي جرّ إلى الخوض في المسألة هو المناظرة في خلق أفعال العباد،؛ فإنّ الأشعري لما نفى قدرة العبد، وقال بالكسب، وفسّره بمقارنة قدرة العبد لحصول المقدورِ دون أن تكون قدرته مؤثرّة فيه، ألزمهم المعتزلة القول بأنّ الله كلّف العباد بما ليس في مقدورهم، وذلك تكليف بما لا يطاق، فالتزم الأشعري ذلك، وخالف إمام الحرمين والغزالي الأشعريّ في جواز تكليف ما لا يطاق والآية لا تنهض حجة على كلا الفريقين في حكم إمكان ذلك. ثم اختلف المجوّزون: هل هو واقع، وقد حكى القرطبي الإجماع على عدم الوقوع وهو الصواب في الحكاية، وقال إمام الحرمين في «البرهان»: «والتكاليف كلّها عند الأشعري من التكليف بما لا يطاق، لأنّ المأمورات كلّها متعلّقة بأفعال هي عند الأشعري غير مقدورة للمكلّف، فهو مأمور بالصلاة وهو لا يقدر عليها، وإنّما يُقْدِره الله تعالى عند إرادة الفعل مع سلامة الأسباب والآلات» وما ألزمُه إمام الحرمين الأشعريّ إلزام باطل؛ لأنّ المراد بما لا يطاق ما لا تتعلّق به قدرة العبد الظاهرة، المعبّر عنها بالكسب، للفرق البيِّن بين الأحوال الظاهرة، وبين الحقائق المستورة في نفس الأمر، وكذلك لا معنى لإدخال ما عَلِمَ الله عدمَ وقوعه، كأمر أبي جهل بالإيمان مع عِلم الله بأنّه لا يؤمن، في مسألة التكليف بما لا يطاق، أو بالمحال؛ لأنّ علم الله ذلك لم يطّلع عليه أحد. وأورد عليه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم دعا أبا لهب إلى الإسلام وقد علم الله أنّه لا يسلم لقوله تعالى: {تبت يدا أبي لهب وتب إلى قوله سيصلى ناراً ذات لهب} [المسد: 1، 3] فقد يقال: إنّه بعد نزول هذه الآية لم يخاطَب بطلب الإيمان وإنّما خوطب قبل ذلك، وبذلك نسلم من أن نقول: إنّه خارج عن الدعوة، ومن أن نقول: إنّه مخاطب بعد نزول الآية. وهذه الآية تقتضي عدم وقوع التكليف بما لا يطاق في الشريعة، بحسب المتعارف في إرادة البشر وقُدَرِهم، دون ما هو بحسب سرّ القَدَر، والبحث عن حقيقة القدرة الحادثة، نعم يؤخذ منها الرد على الجبرية. وقوله: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} حال من «نَفَسا» لبيان كيفية الوسع الذي كلفت به النفس: وهو أنّه إن جاءت بخير كان نفعه لها وإن جاءت بشرّ كان ضُرّه عليها. وهذا التقسيم حاصل من التعليق بواسطة «اللاّم» مرة وبواسطة (علَى) أخرى. وأما كسبت واكتسبت فبمعنى واحد في كلام العرب؛ لأنّ المطاوعة في اكتسب ليست على بابها، وإنّما عبّر هنا مرة بكَسَبت وأخرى باكتسبت تفنّناً وكراهيةَ إعادة الكلمة بعينها، كما فعل ذو الرمة في قوله: ومُطعَممِ الصيد هَبَّال لبُغيته *** ألفَى أباه بذاك الكَسْب مُكتسِبا وقول النابغة: فحملت بَرّةَ واحتَمَلْتَ فجارِ *** وابتدُئ أولاً بالمشهور الكثير، ثم أعيد بمطاوعه، وقد تَكون، في اختيار الفعل الذي أصله دَالٌ على المطاوعة، إشارةٌ إلى أنّ الشرور يأمر بها الشيطان، فتأتمر النفس وتطاوعه وذلك تبْغيض من الله للناس في الذنوب. واختير الفعل الدال على اختيار النفس للحسنات، إشارة إلى أنّ الله يسوق إليها الناس بالفطرة، ووقع في «الكشاف» أنْ فعل المطاوعة لدلالته على الاعتمال، وكان الشرّ مشتهًى للنفس، فهي تَجِدُّ تحصيله، فعبّر عن فعلها ذلك بالاكتساب. والمراد بما اكتسبت الشرور، فمن أجل ذلك ظنّ بعض المفسرين أنّ الكسب هو اجتناء الخير، والاكتساب هو اجتناء الشر، وهو خلاف التحقيق؛ ففي القرآن {ولا تكسب كلّ نفس إلاّ عليها} [الأنعام: 164] ثم قيل للذين ظلموا {ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلاّ بما كنتم تكسبون} [يونس: 52] وقد قيل: إنّ اكتسب إذا اجتمع مع كسب خُصّ بالعمل الذي فيه تكلّف. لكن لم يرد التعبير باكتسبت في جانب فعل الخير. وفي هذه الآية مأخذ حسن لأبي الحسن الأشعري في تسميته استطاعة العبد كسبا واكتساباً؛ فإنّ الله وصف نفسه بالقدرة. ولم يصف العباد بالقدرة، ولا أسند إليهم فعل قَدَر وَإنّما أسند إليهم الكسب، وهو قول يجمع بين المتعارضات ويفي بتحقيق إضافة الأفعال إلى العباد، مع الأدب في عدم إثبات صفة القدرة للعباد، وقد قيل: إنّ أول من استعمل كلمة الكسب هو الحسين بن محمد النجار، رأس الفرقة النجارية من الجبرية، كان معاصِراً للنظام في القرن الثالث، ولكن اشتهر بها أبو الحسن الأشعري حتى قال الطلبة في وصف الأمر الخفي: «أدقُّ مِن كَسْب الأشعريّ». وتعريف الكسب، عند الأشعري: هو حالة للعبد يقارنها خَلْقُ الله فعلاً متعلَّقاً بها. وعرّفه الإمام الرازي بأنّه صفة تَحصلُ بقدرة العبد لفعله الحاصل بقدرة الله. وللكسب تعاريف أخر. وحاصل معنى الكسب، وما دعا إلى إثباته: هو أنّه لما تقرر أنّ الله قادر على جميع الكائنات الخارجة عن اختيار العبد، وجب أن يقرّر عموم قدرته على كلّ شيء لئلاّ تكون قدرة الله غير متسلّطة على بعض الكائنات، إعمالاً للأدلة الدالة على أنّ الله على كلّ شيء قدير، وأنّه خالق كلّ شيء، وليس لعموم هذه الأدلة دليل يخصّصه، فوجب إعمال هذا العموم. ثم إنّه لما لم يجز أن يُدّعى كون العبد مجبوراً على أفعاله، للفرق الضروري بين الأفعال الاضطرارية، كحركة المرتعش، والأفعاللِ الاختيارية، كحركة الماشي والقاتِل، ورعيا لحقيّة التكاليف الشرعية للعباد لئلاّ يكون التكليف عبثاً، ولحقيّة الوعد والوعيد لئلاّ يكون باطلاً، تعيّن أن تكون للعبد حالة تمكِّنه من فعل ما يريد فعله، وترككِ ما يريد تركه، وهي ميله إلى الفعل أو الترك، فهذه الحالة سمّاها الأشعري الاستطاعة، وسمّاها كسباً. وقال: إنّها تتعلّق بالفعل فإذا تعلّقت به خلق الله الفعل الذي مال إليه على الصورة التي استحضرها ومال إليها. وتقديم المجروريْن في الآية: لقصد الاختصاص، أي لا يلحق غيرها شيء ولا يلحقها شيء من فعل غيرها، وكأنّ هذا إبطال لما كانوا عليه في الجاهلية: من اعتقاد شفاعة الآلهة لهم عند الله. وتمسّك بهذه الآية من رأى أنّ الأعمال لا تقبل النيابة في الثواب والعقاب، إلاّ إذا كان للفاعل أثر في عمل غيره؛ ففي الحديث: " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلاّ من ثلاث: صدقة جارية وعلم بثّه في صدور الرجال، وولد صالح يدعو له " وفي الحديث: " ما من نفس تُقتل ظلماً إلاّ كان على ابن آدم الأول كِفل من دمها ذلك لأنّه أول من سنّ القتل " وفي الحديث: " من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سنّ سنة سيِّئَة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ". رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ واعف عَنَّا واغفر لَنَا وارحمنآ أَنتَ مولانا فانصرنا عَلَى القوم الكافرين}. يجوز أن يكون هذا الدعاء محكيّاً من قول المؤمنين: الذين قالوا: {سمعنا وأطعنا} [البقرة: 285]، بأن اتّبعوا القبول والرضا، فتوجّهوا إلى طلب الجزاء ومناجاة الله تعالى. واختيارُ حكاية هذا عنهم في آخر السورة تكملة للإيذان بانتهائها. ويجوز أن يكون تلقينا من جانب الله تعالى إياهم: بأن يقولوا هذا الدعاء، مثل ما لقّنوا التحميد في سورة الفاتحة فيكون التقدير، قولوا: {ربنا لا تؤاخذنا} إلى آخر السورة؛ إنّ الله بعد أن قرر لهم أنّه لا يكلّف نفساً إلاّ وسعها، لقّنهم مناجاة بدعوات هي من آثار انتفاء التكليف بما ليس في الوسع. والمراد من الدعاء به طلب الدوام على ذلك لئلا يُنسخ ذلك من جراء غضب الله كما غضب على الذين قال فيهم: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم} [النساء: 160]. والمؤاخذة مشتقّة من الأخذ بمعنى العقوبة، كقوله: {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة} [هود: 102] والمفاعلة فيه للمبالغة أي لا تأخذنا بالنسيان والخطأ. والمراد ما يترتّب على النسيان والخطأ من فِعل أو ترك لا يرضيان الله تعالى. فهذه دعوة من المؤمنين دعوها قبل أن يعلموا أنّ الله رفع عنهم ذلك بقوله: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " وفي رواية: " وضع " رواه ابن ماجه وتكلم العلماء في صحته، وقد حسّنه النووي، وأنكره أحمد، ومعناه صحيح في غير ما يرجع إلى الخطاب الوضع. فالمعنى رفع الله عنهم المؤاخذة فبقيت المؤاخذة بالإتلاف والغرامات ولذلك جاء في هذه الدعوة «لا تؤاخذنا» أي لا تؤاخذنا بالعقاب على فعلٍ: نسياننٍ أو خطأ، فلا يرد إشكال الدعاء بما عُلم حصوله، حتى نحتاج إلى تأويل الآية بأنّ المراد بالنسيان والخطأ سببهما وهو التفريط والإغفال كما في «الكشاف». وقوله: {ربنا ولا تحمل علينا إصراً} إلخ فصلّ بين الجملتين المتعاطفتين، بإعادة النداء، مع أنّه مستغنى عنه: لأنّ مخاطبة المنادى مغنِيَة عن إعادَة النداء لكن قصد من إعادته إظهار التذلّل. والحمل مجاز في التكليف بأمر شديد يثقل على النفس، وهو مناسب لاستعارة الإصر. وأصل معنى الإصر ما يُؤصَر به أي يُربط، وتعقد به الأشياء، ويقال له: الإصار بكسر الهمزة ثم استعمل مجازاً في العهد والميثاق المؤكّد فيما يصعب الوفاء به، ومنه قوله في آل عمران (81): {قال آقررتم وأخذتم على ذلكم إصري} وأطلق أيضاً على ما يثقل عمله، والامتثالُ فيه، وبذلك فسّره الزجاج والزمخشري هنا وفي قوله، في سورة الأعراف (157): {ويضع عنهم إصرهم} وهو المقصود هنا، ومن ثم حسنت استعارة الحَمْل للتكليف، لأنّ الحمل يناسب الثِقَل فيكون قوله: ولا تحمِلْ} ترشيحاً مستعاراً لملائم المشبّه به وعن ابن عباس: {ولا تحمل علينا إصراً} عهداً لا نفي به، ونعذّب بتركه ونقضه». وقوله: {كما حملته على الذين من قبلنا} صفة ل {إصراً} أي عهداً من الدين، كالعهد الذي كلّف به من قبلنا في المشقة، مثل ما كلّف به بعض الأمم الماضية من الأحكام الشاقّة مثل أمر بني إسرائيل بتيه أربعين سنة، وبصفات في البقرة التي أمروا بذبحها نادرة ونحو ذلك، وكل ذلك تأديب لهم على مخالفات، وعلى قلة اهتبال بأوامر الله ورسوله إليهم، قال تعالى في صفة محمد صلى الله عليه وسلم " ويضع عنهم إصرهم ". وقوله: {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} أي ما لا نستطيع حمله من العقوبات. والتضعيف فيه للتعدية. وقيل: هذا دعاء بمعافاتهم من التكاليف الشديدة، والذي قبله دعاء بمعافاتهم من العقوبات التي عوقبت بها الأمم. والطاقة في الأصل الإطاقة خفّفت بحذف الهمزة كما قالوا: جابة وإجابة وطاعة وإطاعة. والقول في هذين الدعاءين كالقول في قوله: {ربنا لا تؤاخذنا}. وقوله: {واعف عنا واغفر لنا} لم يؤت مع هذه الدعوات بقوله ربّنا، إمّا لأنّه تكرّر ثلاث مرات، والعرب تكره تكرير اللفظ أكثر من ثلاث مرات إلاّ في مقام التهويل، وإمّا لأنّ تلك الدعوات المقترنة بقوله: {ربنا} فروع لهذه الدعوات الثلاث، فإذا استجيب تلك حصلت إجابة هذه بالأوْلى؛ فإنّ العفو أصل لعدم المؤاخذة، والمغفرةَ أصل لرفع المشقة والرحمة أصل لعدم العقوبة الدنيوية والأخروية، فلمّا كان تعميماً بعد تخصيص، كان كأنّه دعاء واحد. وقوله: {أنت مولانا} فصله لأنّه كالعلّة للدعوات الماضية: أي دعوناك ورجونا منك ذلك لأنّك مولانا، ومن شأن المولى الرفقُ بالمملوك، وليكون هذا أيضاً كالمقدمة للدعوة الآتية. وقوله: {فانصرنا على القوم الكافرين} جيء فيه بالفاء للتفريع عن كونه مولى، لأنّ شأن المولى أن ينصر مولاه، ومن هنا يظهر موقع التعجيب والتحسير في قول مرة بن عداء الفقعسي: رأيتُ مَوَالِيّ الألَى يخذلونني *** على حدثَاننِ الدّهْرِ إذْ يَتَقلّب وفي التفريع بالفاء إيذان بتأكيد طلب إجابة الدعاء بالنصر، لأنّهم جعلوه مرتّباً على وصف محقّق، وهو ولاية الله تعالى المؤمنين، قال تعالى: {اللَّه ولي الذين آمنوا} [البقرة: 257] وفي حديث يوم أحد لَمَّا قال أبو سفيان: «لَنا العُزّى ولا عُزَّى لكم» قال النبي صلى الله عليه وسلم أجيبوه " الله مولانا ولا مولَى لكم ". ووجه الاهتمام بهذه الدعوة أنّها جامعة لخيري الدنيا والآخرة؛ لأنّهم إذا نصروا على العدوّ، فقد طاب عيشهم وظهر دينهم، وسلموا من الفتنة، ودخل الناس فيه أفواجاً. وفي «الصحيح»، عن أبي مسعود الأنصاري البدري: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة، في ليلة، كفتاه " وهما من قوله تعالى: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه} إلى آخر السورة. قيل معناه كفتاه عن قيام الليل، فيكون معنى من قرأ من صلَى بهما، وقيل معناه كفتاه بركة وتعوّذا من الشياطين والمضارّ، ولعلّ كلا الاحتمالين مراد.
{الم (1)} لما كان أول أغراض هذه السورة، الذي نزلت فيه، هو قضية مجادلة نصارى نجران حين وفدوا إلى المدينة، وبيان فضل الإسلام على النصرانِيَّة، لا جرم افتتحت بحروف التهجّي، المرموز بها إلى تحدّي المكذّبين بهذا الكتاب، وكان الحظّ الأوفر من التكذيب بالقرآن للمشركين منهم، ثم للنصارى من العَرب؛ لأنّ اليهود الذين سكنوا بلاد العرب فتكلّموا بلسانهم لم يكونوا معدودين من أهل اللسان، ويندر فيهم البلغاء بالعربية مثلُ السَّمَوْأل، وهذا وما بعده إلى قوله: {إن الله اصطفى ءادم ونوحا} [آل عمران: 33] تمهيد لِما نزلت السورة بسببه وبراعة استهلال لذلك. وتقدم القول في معاني {آلم} أول البقرة.
{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4)} ابتُدِئ الكلام بمسند إليه خَبرُه فِعْلِيُّ: لإفادة تقوية الخبر اهتماماً به. وجيء بالاسم العلَم: لتربية المهابة عند سماعه، ثم أردف بجملة لا إله إلاّ هوالله لاا إله إِلاَّ هُوَ الحى القيوم * نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التوراة والإنجيل * مِن}، جملةً معترضة أو حاليةً، ردّاً على المشركين، وعلى النصارى خاصة. وأتبع بالوصفين {الحيّ القيوم} لنفي اللبس عن مسمَّى هذا الاسم، والإيماء إلى وجه انفراده بالإلاهية، وأنّ غيره لا يستأهلها؛ لأنّه غير حيّ أوْ غير قَيُّوم، فالأصنام لا حياة لها، وعيسى في اعتقاد النصارى قد أميت، فما هو الآن بقيوُّم ولا هو في حال حياته بقيّوم على تدبير العالم، وكيف وقد أوذِيَ في الله، وكُذّب، واختفّى من أعدائه. وقد مضى القول في معنى {الحيّ القيّوم} في تفسير آية الكرسي. وقوله: {نزل عليك الكتاب} خبر عن اسم الجلالة. والخبر هنا مستعمل في الامتنان، أو هو تعريض ونكايةَ بأهل الكتاب: الذين أنكروا ذلك. وجيء بالمسند فعلاً لإفادة تقوية الخبر، أو للدلالة مع ذلك على الاختصاص: أي الله لا غيره نزّل عليك الكتاب إبطالاً لقول المشركين: إنّ القرآن من كلام الشيطان، أو من طرائق الكهانة، أو يُعلِّمه بَشَرٌ. والتضعيف في {نَزّل} للتعدية فهو يساوي الهمز في أنزل، وإنّما التضعيف يؤذن بقوة الفعل في كيفيته أو كمّيته، في الفعل المتعدّي بغير التضعيف، من أجل أنّهم قد أنوا ببعض الأفعال المتعدّية، للدلالة على ذلك، كقولهم: فَسَر وفسَّر، وفَرَق وفرّق، وكَسَر وكسّر، كما أتوا بأفعال قاصرة بصيغة المضاعفة، دون تعدية للدلالة على قوة الفعل، كما قالوا: مَاتَ ومَوّت وصَاح وصَيّح. فأما إذا صار التضعيف للتعدية فلا أوقن بأنّه يدلّ على تقوية الفعل، إلاّ أن يقال: إنّ العدول عن التعدية بالهمز، إلى التعدية بالتضعيف، لقصد ما عُهد في التضعيف من تَقوية معنى الفعل، فيكون قوله: {نزل عليك الكتاب} أهمّ من قوله: {وأنزل التوراة} للدلالة على عظم شأن نزول القرآن. وقد بيّنت ذلك مستوفى في المقدّمة الأولى من هذا التفسير، ووقع في «الكشاف»، هنا وفي مواضع متعدّدة، أن قال: إن نزّل يدل على التنجيم وإنّ أنزل يدل على أنّ الكتابين أنزلا جملةً واحدة وهذا لا علاقة له بمعنى التقوية المُدّعَى للفعل المضاعف، إلاّ أن يعني أنّ نزّل مستعمل في لازم التكثير، وهو التوزيع ورّده أبو حيان بقوله تعالى: {وقال الذين كفروا لَوْلاَ نُزِّل عليه القرآن جُملة واحدة} [الفرقان: 32] فجمع بين التضعيف وقوله: {جملة واحدة. وأزيدُ أنّ التوراة والإنجيل نزلا مفرّقَين كشأن كلّ ما ينزل على الرسل في مدة الرسالة، وهو الحق: إذ لا يعرف أنّ كتاباً نزل على رسول دفعة واحدة. والكتاب: القرآن. والباء في قوله: بالحق} للملابسة، ومعنى ملابسته للحق اشتماله عليه في جميع ما يشتمل عليه من المعاني قال تعالى: {وبالحق أنزلناه وبالحق نَزل} [الإسراء: 105]. ومعنى {مصدقاً لما بين يديه} أنّه مصدق للكتب السابقة له، وجعل السابق بين يديه: لأنّه يجيء قبله، فكأنّه يمشي أمامه. والتوراة اسم للكتاب المنزّل على موسى عليه السلام، وهو اسم عبراني أصله طوْراً بمعنى الهدي، والظاهر أنّه اسم للألواح التي فيها الكلمات العشر التي نزلت على موسى عليه السلام في جبل الطور؛ لأنّها أصل الشريعة التي جاءت في كتب موسى، فأطق ذلك الاسم على جميع كتب موسى، واليهود يقولون (سِفر طوراً) فلمّا دخل هذا الاسم إلى العربية أدخلوا عليه لام التعريف التي تدخل على الأوصَاففِ والنكرات لتصير أعلاماً بالغَلَبة: مثل العَقَبة، ومن أهل اللغة والتفسير من حاولوا توجيهاً لاشتقاقه اشتقاقاً عربياً، فقالوا: إنّ مشتق من الوَرْي وهو الوقد، بوزن تَفعَلة أو فَوْعَلَة، وربّما أقدمهم على ذلك أمران: أحدهما دخول التعريف عليه، وهو لا يدخل على الأسماء العجمية، وأجيب بأن لا مانع من دخولها على المعرّب كما قالوا: الاسكندرية، وهذا جواب غير صحيح؛ لأنّ الإسكندرية وزن عربي؛ إذ هو نسب إلى إسكندر، فالوجه في الجواب أنّه إنّما ألزم التعريف لأنّه معرّب عن اسم بمعنى الوصف اسممٍ علم فلمّا عربوه ألزموه اللام لذلك. الثاني أنّها كتبت في المصحف بالياء، وهذا لم يذكروه في توجيه كونه عربياً، وسبب كتابته كذلك الإشارة إلى لغةِ إمالته. وأما الإنجيل فاسم للوحي الذي أوحي به إلى عيسى عليه السلام فجمعه أصحابه. وهو اسم معرّب قيل من الرومية وأصله (إثَانْجَيْلِيُوم) أي الخبر الطيّب، فمدلوله مدلول اسم الجنس، ولذلك أدخلوا عليه كلمة التعريف في اللغة الرومية، فلمّا عرّبه العرب أدخلوا عليه حرف التعريف، وذكر القرطبي عن الثعلبي أنّ الإنجيل في السريانية وهي الآرامية (أنكليون) ولعلّ الثعلبي اشتبه عليه الرومية بالسريانية، لأنّ هذه الكلمة ليست سريانية وإنّما لما نطق بها نصارى العراق ظنّها سريانية، أو لعلّ في العبارة تحريفاً وصوابها اليونانية وهو في اليونانية (أووَانَيْلِيُون) أي اللفظ الفصيح. وقد حاول بعض أهل اللغة والتفسير جعله مشتقاً من النجل وهو الماء الذي يخرج من الأرض، وذلك تعسّف أيضاً. وهمزة الإنجيل مكسورة في الأشهر ليجري على وزن الأسماء العربية؛ لأنّ إفعيلاً موجود بقلة مثل إبْزِيممٍ، وربّما نطق به بفتح الهمزة، وذلك لا نظير له في العربية. و {مِنْ قَبْلُ} يتعلّق {بأنْزَلَ}، والأحسن أن يكون حالاً أولى من التوراة والإنجيل، و«هُدَى» حال ثانية. والمُضافُ إليه قبلُ محذوف مَنويُّ مَعْنَى، كما اقتضاه بناء قبل على الضم، والتقدير من قبل هذا الزمان، وهو زمان نزول القرآن. وتقديم {مِنْ قبلُ} على {هدَى للناس} للاهتمام به. وأما ذكر هذا القيد فلكي لا يتوهّم أنّ هُدى التوراةِ والإنجيللِ مستمرّ بعد نزول القرآن. وفيه إشارة إلى أنّها كالمقدّمات لِنزول القرآن، الذي هو تمام مراد الله من البشر {إنّ الدينَ عند الله الإسلام} [آل عمران: 19] فالهدى الذي سبقه غير تام. و {للناس} تعريفه إمّا للعهد: وهم الناس الذي خوطبوا بالكتابين، وإمّا للاستغراق العُرفي: فإنّهما وإن خوطب بهما ناس معروفون، فإنّ ما اشتملا عليه يَهتدي به كلّ من أراد أن يهتدي، وقد تهوّد وتنصّر كثير ممّن لم تشملهم دعوة موسى وعيسى عليهما السلام، ولا يدخل في العموم الناسُ الذين دعاهم محمد صلى الله عليه وسلم لأنّ القرآن أبطل أحكام الكتابين، وأما كون شرع مَنْ قَبْلَنَا شرعاً لنا عند معظم أهل الأصول، فذلك فيما حكاه عنهم القرآن لا ما يوجد في الكتابين، فلا يستقيم اعتبار الاستغراق بهذا الاعتبار بل بما ذكرناه. والفرقان في الأصل مصدر فرَق كالشُكران والكُفران والبُهتان، ثم أطلق على ما يُفرق به بين الحق والباطل قال تعالى: {وما أنزلنا على عبدنا يومَ الفرقان} [الأنفال: 41] وهو يوم بدر. وسمّي به القرآنُ قال تعالى: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده} [الفرقان: 1] والمرادبالفرقان هنا القرآن؛ لأنّه يفرق بين الحق والباطل، وفي وصفه بذلك تفضيل لِهديه على هدى التوراة والإنجيل؛ لأنّ التفرقة بين الحق والباطل أعظم أحوال الهدي، لما فيها من البرهان، وإزالة الشبهة. وإعادةُ قوله: {وأنزل الفرقان} بعد قوله: {نزل عليك الكتاب بالحق} للاهتمام، وليُوصَل الكلام به في قوله: {إن الذين كفروا بآيات اللَّه} [آل عمران: 4] الآية أي بآياته في القرآن. {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بأيات الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ والله عَزِيزٌ ذُو انتقام}. استئناف بياني مُمَهّد إليه بقوله: {نزل عليك الكتاب بالحق} لأنّ نفس السامع تتطلّع إلى معرفة عاقبة الذين أنكروا هذا التنزيل. وشَمل قولُه: {الذين كفروا بآيات الله} المشركينَ واليهودَ والنصارى في مرتبة واحدة، لأنّ جميعهم اشتركوا في الكفر بالقرآن، وهو المراد بآيات الله هنا لأنّه الكتاب الوحيد الذي يصح أن يوصف بأنّه آيةٌ من آيات الله؛ لأنّه مُعجزة. وعبّر عنهم بالموصول إيجازاً؛ لأنّ الصلة تجمعهم، والإيماء إلى وجه بناء الخَبَر وهو قوله: {لهم عذاب شديد}. وعطف قوله: {والله عزيز ذو انتقام} على قوله: {إن الذين كفروا بآيات الله} لأنّه من تكملة هذا الاستئناف: لمجيئه مجيء التبيين لشدّة عذابهم؛ إذ هو عذابٌ عزيزٍ منتقم كقوله: {فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر} [القمر: 42]. (والعزيز تقدم عند قوله تعالى في سورة البقرة (209): {فاعلموا أن اللَّه عزيز حكيم.} والانتقام: العقاب على الاعتداء بغضب، ولذلك قيل للكاره: ناقم. وجيء في هذا الوصف بكلمة (ذو) الدالة على المِلك للإشارة إلى أنّه انتقام عن اختيار لإقامة مصالح العباد وليس هو تعالى مندفعاً للانتقام بدافع الطبع أو الحنق.
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5)} استئناف يتنزّل منزلة البيان لوصف الحي لأنّ عموم العلم يبيِّن كمال الحياة. وجيء ب (شيء) هنا لأنّه من الأسماء العامة. وقوله: {في الأرض ولا في السماء} قصد منه عمومُ أمكنة الأشياء، فالمراد من الأرض الكرة الأرضية: بما فيها من بحار، والمراد بالسماء جنس السموات: وهي العوالم المتباعدة عن الأرض. وابتدئ في الذكر بالأرض ليتسنَّى التدرّج في العطف إلى الأبعد في الحكم؛ لأنّ أشياء الأرض يعلم كثيراً منها كثيرٌ من الناس، أما أشياءالسماء فلا يعلم أحد بعضها فضلاً عن علم جميعها.
{هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)} استئناف ثان يبيّن شيئاً من معنى القيّومية، فهو كبدل البعض من الكل، وخصّ من بين شؤون القيّومية تصويرُ البشر لأنّه من أعجب مظاهر القدرة؛ ولأنّ فيه تعريضاً بالرد على النصارى في اعتقادهم إلاهية عيسى من أجل أنّ الله صوّره بكيفية غير معتادة فبيّن لهم أنّ الكيفيات العارضة للموجودات كلّها مِن صنع الله وتصويره: سواء المعتاد، وغيرُ المعتاد. وكيفهُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الارحام كَيْفَ يَشَآءُ} هنا ليس فيها معنى الاستفهام، بل هي دالة على مجّد معنى الكيفية؛ أي الحالة، فهي هنا مستعملة في أصلها الموضوعة له في اللغة؛ إذ لا ريب في أنّ (كيف) مشتملة على حروف مادة الكيفية، والتكيّف، وهو الحالة والهيئة، وإن كان الأكثر في الاستعمال أن تكون اسم استفهام، وليست (كيف) فعلاً؛ لأنّها لا دلالةَ فيها على الزمان، ولا حرفاً لاشتمالها على مادة اشتقاق. وقد تجيء (كيف) اسم شرط إذا اتّصلت بها ما الزائدة وفي كلّ ذلك لا تفارقها الدلالة على الحالة، ولا يفارقها إيلاء الجملة الفعلية إياها إلاّ ما شذّ من قولهم: كيف أنت. فإذا كانت استفهاماً فالجملة بعدها هي المستفهم عنه فتكون معمولة للفعل الذي بعدها، ملتزماً تقديمُها عليه؛ لأنّ للاستفهام الصدارة، وإذا جرّدت عن الاستفهام كان موقعها من الإعراب على حسب ما يطلبه الكلام الواقعة هي فيه من العوامل كسائر الأسماء. وأمّا الجملة التي بعدها حينئذ فالأظهر أن تعتبر مضافاً إليها اسم كيف ويعتبر كيف من الأسماء الملازمة للإضافة. وجرى في كلام بعض أهل العربية أنّ فتحة (كيف) فتحة بناء. والأظهر عندي أنّ فتحة كيف فتحة نصب لزِمَتْها لأنّها دائماً متّصلة بالفعل فهي معمولة له على الحالية أو نحوِها، فلملازمة ذلك الفتح إياها أشبهت فتحة البناء. فكيف في قوله هنا {كيف يشاء} يعرب مفعولاً مطلقاً «ليصوِّرُكُم»، إذ التقدير: حال تصوير يشاؤها كما قاله ابن هشام في قوله تعالى: {كيف فعل ربك} [الفجر: 6]. وجوّز صاحب «المغني» أن تكون شرطية، والجواب محذوف لدلالة قوله: {يصوركم} عليه وهو بعيد؛ لأنّها لا تأتي في الشرط إلاّ مقترنة بمَا. وأما قول الناس: كيف شاء فعل فلحن. وكذلك جزم الفعل بعدها قد عُدّ لحناً عند جمهور أئمّة العربية. وذلّ تعريف الجزأين على قصر صفة التصوير عليه تعالى وهو قصر حقيقي لأنّه كذلك في الواقع؛ إذ هو مكّون أسباب ذلك التصوير وهذا إيماء إلى كشف شبة النصارى إذ توهّموا أن تخلّق عيسى بدون ماء أب دليل على أنّه غير بشر وأنّه إله وجهلوا أنّ التصوير في الأرحام وإن اختلفت كيفياته لا يخرج عن كونه خلقاً لما كان معدوماً فكيف يكون ذلك المخلوق المصوّر في الرحم إلهاً. {لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم}. تذييل لتقرير الأحكام المتقدّمة. وتقدم معنى العزيز الحكيم في قوله تعالى: {فاعلموا أن اللَّه عزيز حكيم} وفي افتتاح السورة بهذه الآيات براعة استهلال لنزولها في مجادلة نصارى نجران، ولذلك تكرّر في هذا الطالع قصْر الإلهية على الله تعالى في قوله: {الله لا لا إله إلا هو} وقوله: {هو الذي صوركم} وقوله: لا إله إلا هو.
|